فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ}: في {سواءٌ} وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ مقدَّمٌ، و: {مَّنْ أَسَرَّ} و: {وَمَنْ جَهَرَ} هو المبتدأ، وإنما بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ، وهو هنا بمعنى مُسْتَوٍ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ، و{منكم} على هذا حالٌ من الضمير المستتر في {سواءٌ} لأنه بمعنى مُسْتَوٍ. قال أبو البقاء: ويَضْعُفُ أن يكونَ حالًا من الضمير في {أَسَرَّ} أو {جَهَرَ} لوجهين، أحدُهما: تقديمُ ما في الصلةِ على الموصولِ أو الصفة على الموصوف، والثاني: تقديمُ الخبرِ على {منكم}، وحقُّه أن يقعَ بعده. قلت: قوله وحقُّه أن يقع بعده يعني بعده وبعد المبتدأ، وإلا يَصِرْ كلامُه لا معنى له.
والثاني: أنه مبتدأ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله: {مِنْكم} وأَعْرَبَ سيبويه سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ كذلك. وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ ذلك بأنه ابتداءٌ بنكرة، غَلَطٌ عليه.
قوله: {وَسَارِبٌ بالنهار} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفًا على {مُسْتَخْفٍ}، ويُرادُ ب مَنْ حينئذٍ اثنان، وحَمَلَ المبتدأَ الذي هو لفظةُ {هو} على لفظِها فأفرده، والخبرَ على معناها فثَنَّاه. الوجه الثاني: أن يكونَ عطفًا على: {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على {مُسْتَخْفٍ} وحدَه. ويُرَجِّح هذين الوجهين ما قاله الزمخشري. قال رحمه الله: فإنْ قلت: كان حقُّ العبارة أن يُقال: ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ معنى الاستواء المستخفي والساربُ، وإلاَّ فقد تناول واحدًا هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ. قلت: فيه وجهان، أحدٌهما: أنَّ قوله: {وساربٌ} عطفٌ على: {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على {مُسْتَخْفٍ}. والثاني: أنه عَطْفٌ على {مُسْتَخْفٍ}، إلا أنَّ {مَنْ} في معنى الاثنين، كقوله:
-....................... ** نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبانِ

كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان: {مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار}. قلت: وفي عبارتِه بقوله كان حقُّ العبارةِ كذا سوءُ أدب. وقوله: كقولِه نَكُنْ مثلَ مَنْ يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه:
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني ** نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان

وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط، وهو مقصودُه. وقوله: وإلا فقد تناول واحدًا هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ لو قال بهذا قائلٌ لأصاب الصوابَ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ، ذهبا إلى أن المتسخفي والسارب شخصٌ واحد، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ.
الثالث: أن يكونَ على حذف مَنْ الموصولة، أي: ومَنْ هو سارِبٌ، وهذا إنما يَتَمَشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدَّم استدلالُهم ذلك.
والسَّارِب: اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ، أي: تَصَرَّف كيف شاء. قال:
أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبِ ** وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ

وقال آخر:
وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ** ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو سارِبُ

أي: متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه، لا يدفعه أحدٌ عن مَرْعى، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة والقوة.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}
قوله تعالى: {لَهُ} الضميرُ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه عائدٌ على {مَنْ} المكررة، أي: لِمَنْ أسرَّ القولَ ولِمَنْ جَهَرَ به ولِمَنْ استخفى وسَرَب مُعَقِّبات، أي: جماعة من الملائكة يَعْقُبُ بعضُهم بعضًا. الثاني: أنه يعود على {مَنْ} الأخيرةِ، وهو قولُ ابن عباس. قال ابنُ عطية: والمُعَقِّبات على هذا: حَرَسُ الرَّجُلِ وجَلاوِزَتُه الذين يحفطونَه. قالوا: والآيةُ على هذا في الرؤساء الكفارِ، واختاره الطبري في آخرين، إلا أنَّ الماورديَّ ذكر على التأويلِ أنَّ الكلامَ نفيٌ، والتقدير: لا يحفطونه. وهذا ينبغي أن لا يُسْمَعَ البتة، كيف يَبْرُزُ كلامٌ موجَبٌ ويُراد به نفي؟ وحَذْفُ لا إنما يجوز إذا كان المنفيُّ مضارعًا في جوابِ قسمٍ نحو: {تَالله تَفْتَؤُاْ} [يوسف: 85] وقد تقدَّم تحريرُه، وإنما معنى الكلام-كما قال المهدوي-يحفظونه مِنْ أمرِ اللهِ في ظنِّه وزعمه.
الثالث: أنَّ الضميرَ في {له} يعود على الله تعالى ذِكْرُه، وفي {يَحْفظونه} للعبد، أي: لله ملائكةٌ يحفظون العبدَ من الآفات، ويحفطون عليه أعمالَه، قاله الحسن.
الرابع: عَوْدُ الضميرين على النبي عليه السلام، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ قريبٌ، ولتقدُّم ما يُشعر به في قوله: {لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ} [الأنعام: 8].
ومعَقِّبات: جمع مُعَقِّب بزنة مُفَعِّل، مِنْ عَقَّب الرجلُ إذا جاء على عَقِب الآخر؛ لأنَّ بعضَهم يعَقِّب بعضًا، أو لأنهم يُعَقِّبون ما يتكلم به. وقال الزمخشري: والأصلُ معْتَقِبات، فَأُدْغمت التاءُ في القاف كقوله: {وَجَاءَ المعذرون} [التوبة: 90]، أي: المُعْتَذِرُون، ويَجوز مُعَقِّبات بكسر العين ولم يقرأ به. وقال الشيخ: وهذا وهمٌ فاحشٌ لا تُدْغم التاءُ في القاف، ولا القاف في التاء، لا مِنْ كلمةٍ ولا مِنْ كلمتين، وقد نصَّ التصريفيون على أن القافَ والكاف كلٌ منهما يُدْغم في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يُدْغم غيرهما فيهما. وأمَّا تشبيهُه بقوله: {وَجَاءَ المعذرون} فلا يتعيَّن أن يكونَ أصلُه المُعْتَذِرون وقد تقدَّم توجيهُه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه. وأمَّا قوله ويجوز مُعَقِّبات بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناه على أنَّ أصلَه مُتَعَقِّبات فأُدْغِمَت التاءُ في القافِ، وقد بيَّنَّا أنَّ ذلك وهمٌ فاحشٌ.
وفي مُعَقِّبات احتمالان، أحدهما: أن يكون مُعَقِّبة بمعنى مُعَقِّب والتاء للمبالغة كعلاَّمَة ونسَّابة، أي: مَلَكٌ مُعَقِّبٌ، ثم جُمِع كعلاَّمات ونسَّابات. والثاني: أن يكون مُعَقِّبة صفةً لجماعة، ثم جُمِع هذا الوصفُ. وذكر ابن جرير أنَّ مُعَقِّبة جمعُ مُعَقِّب، وشبَّه ذلك برجل ورِجال ورجالات. قال الشيخ: وليس كما ذَكَر، إنما ذلك كَجَمَل وجِمال وجِمالات، ومُعَقِّبة ومُعَقِّبات إنما هي كضاربةِ وضاربات.
ويمكن أن يُجابَ عنه بأنه يريد بذلك أنه أُطْلِق مِنْ حيث الاستعمالُ على جمع مُعَقَّب، وإن كان أصلُه أن يُطْلَق على مؤنث مُعَقِّب، فصار مثلَ الوارِدَة للجماعة الذين يَرِدُون، وإن كان أصلُه للمؤنثة من جهةِ أن جموعَ التكسير في العقلاء تُعَامَلُ معاملةَ المؤنثة في الإِخبار وعَوْدِ الضمير، ومنه قولهم الرجال وأعضادُها، والعلماء ذاهبة إلى كذا. وتشبيهه ذلك برجل ورجال ورِجالات من حيث المعنى لا الصناعةُ.
وقرأ أُبَيّ وإبراهيم وعُبيد الله بن زياد {له مَعاقيبُ}. قال الزمخشري: جمع مُعْقِب أو مُعْقِبة، والياءُ عوضٌ مِنْ حذف إحدى القافين في التكسير. قلت: ويوضِّحُ هذا ما قاله ابنُ جني فإنه قال: معاقيب تكسير مُعْقِب بسكونِ العين وكسر القاف كمُطْعِم ومَطاعِيْم، ومُقْدِم ومَقاديم، فكأنَّ مُعْقِبًا جُمِع على مَعاقِبَة، ثم جُعِلَتِ الياء في {مَعاقيب} عوضًا من الهاء المحذوفة في مَعاقبة.
قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ {مُعَقِّبات} ويجوزُ أَنْ يعتلَّق بمعقِّبات، و{مِنْ} لابتداء الغاية، ويجوز أن يكونَ حالًا من الضمير الذي هو في الظرف الواقع خبرًا. والكلامُ على هذه الأوجهِ تامٌّ عند قوله: {وَمِنْ خَلْفِهِ}. وعَبَّر أبو البقاء عن هذه الأوجهِ بعبارةٍ مُشْكلة هذا شَرْحُها، وهي قولُه: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يكونَ صفةً لمعَقِّبات، وأن يكون ظرفًا، وأن يكونَ حالًا مِنَ الضميرِ الذي فيه، فعلى هذا يتم الكلامُ عنده. انتهى.
ويجوز أَنْ يتعلَّق ب {يحفظونه}، أي: يحفظونه مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه.
فإن قلت: كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظًا ومعنى بعاملٍ واحد: وهما {مِنْ} الداخلةُ على {بين} و{مِنْ} الداخلة على {أَمْرِ الله}؟ فالجواب أنَّ {مِنْ} الثانيةَ مغايرةٌ للأولى في المعنى كما ستعرفه.
قوله: {يَحْفَظُونَهُ} يجوز أن يكونَ صفةً ل {مُعَقِّبات}، ويجوز أن يكونَ حالًا من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ الواقعِ خبرًا. و: {مِنْ أَمْرِ الله} متعلقٌ به، و{مِنْ}: إمَّا للسبب، أي: بسبب أمرِ الله،-ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة {بأَمْرِ الله}. وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عملَه بإذن الله، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها. قال أبو البقاء: {مِنْ أَْمْرِ الله}، أي: من الجنِّ والإِنس، فتكون {مِنْ} على بابها. يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ، فتكون {مِنْ} لابتداء الغاية.
وجَوَّز أيضًا أن تكونَ بمعنى عن، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة.
ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضًا، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة: بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه، وبكونها تحفظُه، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ، وهو جائزٌ فصيح. وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره، وأن الأصلَ: له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه.
قوله: {وَإِذَا أَرَادَ} العاملُ في {إذا} محذوفٌ لدلالة جوابِها عليه تقديرُه: لم يُرَدَّ، أو وقع، ونحوُهما، ولا يَعْمل فيها جوابُها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {لَهُ مَعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
الكناية في: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} راجعةٌ إلى العبد، أي أن ألله وَكَلَ بكلِّ واحدٍ منهم معقباتٍ وهم الملائكة الذين يعقب بعضهم بعضًا بالليل والنهار يحفظون هذا المكلَّف وذَاكَ من أمر الله، أي من البلاء الذي بقدرة الله. يحفظونهم بأمر الله من أمر الله، وذلك أن الله- سبحانه- وَكَلَ لكلِّ واحدٍ من الخَلقْ ملائكةً يدفعون عنهم البلاَءَ إذا ناموا وغفلوا، أو إذا انتبهوا وقاموا ومشوا... وفي جميع أحوالهم.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بقومٍ حتى يغيروا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}.
وإذا غيَّروا ما بهم إلى الطاعات غيَّر الله مابهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا في نعمة فغيَّروا مابهم من الشكر لله تغيَّر عليهم ما مَنَّ به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا في شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا في التضرع، وأظهروا العجز غيَّر ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل.
ويقال إذا غيَّروا ما بألسنتهم من الذِّكْرِ غيَّر الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيانَ والغفلة، فإذا كان العبد في بسطةٍ وتقريب، وكشفٍ بالقلب وترقب.. فاللَّهُ لا يُغَيِّر ما بأنفسهم بترك أدبٍ، أو إخلال بحقٍ، أو إلمام بذنبٍ.
ويقال لا يَكُفُّ ما أتَاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يتركَ ويُغَيِّر ما هو به من الشكر والحمد. فإذا قابل النعمة بالكفران، وأبدل حضور القلب بالنسيان وما يُطيح به من العصيان.. أبدل اللَّهُ تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان، وسَلَبَه ما كان يعطيه من الإحسان.
ويقال إذا توالت المحنُ وأراد العبدُ زوالَها فلا يصل إليه النَّفْضُ منها إلاَّ بأَنْ يغير ما هو به؛ فيأخذ في السؤال بعد السكوت، وفي إظهار الجَزَع بعد السكون، فإذا أخذ في التضرع غيَّر ما به من الصبر.
قوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بَقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}: يقال إذا أراد اللَّهِ بقومٍ بلاءً وفتنة فما تعلَّقَتْ به المشيئة لا محالة يجري.
ويقال إذا أراد الله بقوم سوءًا أعينهم حتى يعملوا ويختاروا ما فيه بلاؤهم، فهم يمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، ويسعون- في الحقيقة- في دَمِهِم كما قال قائلهم:
إلى حَتْفِي مَشَى قدمي ** إذا قَدَمِي أراق دمي

. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {المر} الألف الله لا إله إلا هو الحي القيوم، اللام له مقاليد السموات والأرض، الميم مالك يوم الدين، الراء رب العالمين من الأزل إلى الأبد أقسم بهذه الأمور أن الذي أنزل على عبده محمد هو الحق، وأنه حبل الله الذي به يوصل المؤمن من هبوط عالم الطبيعة إلى ذروة عالم الحقيقة لأنه: {الله الذي رفع السموات} المحسوسة: {بغير عمد} فكما أنه رفع السموات بقدرته فكذلك رفع الدرجات برحمته، أو كما أنه رفع السموات المحسوسة بعمد القدرة كذلك يرفع سموات القلوب بجذبة العناية، وسخر شمس الروح وقمر القلب أو النفس لتدبير مصالح العالم الصغير. وإنما تظهر هذه الغرائب والعجائب لحصول كمال الإيقان بالرجوع إلى الله والفناء فيه بل البقاء به. ومن حسن تدبيره أنه مد أرض البشرية وجعل فيها رواسي من الأوصاف الروحانية وأنهارًا من منابع العناية،: {ومن كل الثمرات} وهي الملكات والأخلاق: {جعل فيها زوجين اثنين} ملكة روحانية حميدة وأخرى نفسانية وذميمة. فالأولى نورانية كالنهار والأخرى ظلمانية كالليل، يغلب هذه تارة وتلك أخرى وهذا معنى قوله: {يغشي الليل النهار} وفي أرض الإنسانية: {قطع متجاورات} هي النفس والقلب والروح السر والخفي حيوانية وملكوتية روحانية وجبروتية وعظموتية: {وجنات} هي هذه الأعيان المتسعدة لقبول الفيض عند بلوغها: {من أعناب} هي ثمرة النفس من الصفات التي هي أصل الإسكار كالغفلة والحمق والسهو واللهو: {وزرع} هو ثمرة القلب فإن القلب كالأرض الطيبة التي منها غذاء الروح: {ونخيل} هو الروح ذو الأخلاق الحميدة كالكرم والجود والشجاعة والقناعة والحياء والتواضع والشفقة: {صنوان} هو السر الجبروتي الكاشف عن أسرار الجبروت بين الرب والعبد فإنه إذا حكى السر للعبد كان المحكى مثالًا لما عليه الوجود: {وغير صنوان} هو الخفي الواقف على أسرار العظموت التي لا مثل لها ولا أمثال ولا تحكى لعبده كما قال: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10] وكما قال: بين المحبين سر ليس يفشيه.
{يسقى بماء واحد} هو ماء القدرة والحكمة: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} أي ما في استعداد كل مستعد من الفضائل، أو ما في كل ذرّة من ذرّات المكونات من الخواص والطبائع، أو ما في كل منها من الآيات الدالة على موجدها: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53]: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} أي ما يظهر من تلك الآيات الاستعدادات في جانبي التفريط والإفراط، والمراد ما ينقص من أرحام الموجودات أو المعدومات فمهما أوجد شيء نقص من رحم العدم واحد وزاد في رحم الوجود واحد وبالعكس في جانب الإعدام. مستخف بليل العدم وظاهر النهار الوجود له أي لله معقبات من العلم والقدرة من بين يدي المعلوم ومن خلفه أي في حالتي عدمه ووجوده من أزله إلى أبده: {يحفظونه من أمر الله} أي لأجل أمره حتى لا يخرج من قبضة تدبيره: {إن الله لا يغير ما بقوم} من الوجود والعدم: {حتى يغيروا ما بأنفسهم} من استدعاء الوجود أو العدم بلسان استحقاق الوجود أو العدم كما تقتضيه حكمته وتدبيره. اهـ.